الحراك المغربي و برلمان الشارع
''إنني أحس على وجهي بألم كل صفعة توجه لوجه مظلوم في هذه الدنيا، فأينما وجد الظلم فذاك هو وطني''. هذا ليس بيت شعري لمحمود درويش ، أو عبدالله ازريقة، وإنما مقولة معبرة منسوبة للطبيب الثائر أرجنتيني الأصل إرنستو تشي جيفارا. هذه العبارة المدوية تكاد تفسر أسباب ودواعي كل المظاهرات الجماهيرية على وجه المعمور. لأن الظلم يؤجج الاحتجاج . فبعد تحول الأنظمة الديمقراطية إلى أنظمة بوليسية محضة، تحت ذريعة محاربة الإرهاب، انتشر الظلم بشكل رهيب . ولمواجهة الطغيان ، عاد الشارع إلى سابق عهده ، حيث صار برلمانا لمن لا برلمان له .
ففي انعدام تمثيلية حقيقية للشعب ، تلجا فِئات عديدة للتظاهر السلمي لإبلاغ مطالبهم ، عبر الهواء الطلق، لمن يهمهم الأمر والتعبير عن سخطهم اتجاه قرارات سياسية لا شعبية أو استفزازية. هكذا خرج الناس في المدن المغربية وفي مناسبات عديدة للاحتجاج على غلاء المعيشة وعلى الزيادات الصاروخية فى فاتورة الماء والكهرباء، كما خرجوا للتضامن مع أشقائهم في مدن مغربية أخرى كسكان الحسيمة، الذي يعانون الأمرين في محنتهم اليومية، التي زادتها هولا وبشاعة المزايدات السياسوية لقاطني القبة البرلمانية، والتأويلات الخاطئة ، وفتاوى وزارة الأوقاف ، التي حولت المساجد إلى قلاع حرب إيديولوجية. وكل مقاربة تبتعد عن الحوار الصادق والمباشر مع المحتجين المتضررين، تؤدي إلى نتائج عكسية. وبما أن أوراق الوسائط المجتمعية (أحزاب إدارية متحكم في مصيرها بوسائل ريعية ، نقابات طفيلية ، كيانات و جمعيات ذات نفع خاص ...) قد احترقت بحطب الانتهازية والخنوع ، فلم يبقى إلا الشارع ، للتعبير عن السخط والإفصاح عن المطالب . منها ما هو جوهري و آني كبناء المستشفيات و البنيات التحتية الضرورية، ومنها ما هو هوياتي كمحو بعض الأوصاف الخبيثة التي تؤجج الغضب حتى في نفوس المسالمين السلميين. وصف سكان منطقة بكاملها بالأوباش لم يكن في مستوى اللياقة البيداغوجية والدبلوماسية. لأن في التعميم مضرة. والعقل المتزن لا ينساق في مثل هاته المستنقعات التي تجلب الضرر. فمهما كان الوزن الاجتماعي للشخص المتكلم والمقرر ، يبقى رهين تصرفاته وأقواله ، قد يرحل عن الدنيا لكن أخطاءه لا يمحيها الزمن، خاصة إذا كان من العليين الذين تعتبر كلماتهم أوامر. وهذا هو ما وقع مع أهل الريف الذين ذاقوا درعا من تراكم الإهمال و أللامبالاة، ومن المشاريع الوهمية والزعامات الكارتونية، كذلك من لغة الخشب التي لا تسمن ولا تغني من جوع. وكان لكلمة ''أوباش'' وقع سيء في نفوس الأجيال الريفية الصاعدة التي وجدت ضالتها في شيوع وسائط التواصل السيبرنتيقي و التليفوني الرقمي المعزز بالتقنيات ألاسلكية . وبما أن البطالة منتشرة ليس فقط في منطقة الريف بل في ريوع المملكة، فالوضع المتأزم يضل مرشحا لكثير من الاضطرابات، و لن تزيدها سلسلة الاعتقالات إلا مزيدا من الاحتقان الذي يولد الانفجار الكلي ، مع قابلية الانتشار إلى مناطق أخرى.
قد تنتهي المحاكمات وفق ما يمليه الضمير البوليسي، لكن سوف تنتفض القوى الحقوقية ببقاع العالم ويتم العفو، لكن ستظل القضية مشتعلة مادامت الحلول الشافية لم تجد الطريق لتبرهن عن جدواها . ومن تبعات هذا الحراك ، هو المساس بالصورة الديناميكية التي ظهر بها المغرب في السنوات الأخيرة . فكيف يمكن له أن يقنع الأفارقة بجدوى المشاريع الاستثمارية التي أطلقها بشراكة معهم ، وهو لم يفلح حتى في ضمان حاجيات منطقة صغيرة بحجم علبة صغيرة ؟
ليعي المسئولون أن بنية المجتمع قد تغيرت، بشكل جدري . في القديم كان الماركسيون يستعملون كلمة ''بروليتاريا'' ، أما اليوم وبعد بزوغ شمس الربيع العربي، الذي اعتقد بعض الانهزاميين والبلطجية بأنه تحول إلى خريف. و مع انتشار الانترنت صار علماء الاجتماع يستعملون عبارة برونتاريا ، لأنها مبنية على كلمة ''نت'' ، التي تعني ''ويب'' أي الانترنت. أما الكارثتين العظميين المسميتين في مجال الإعلام القطب العمومي ولاماب، فقد حان وقت تغيير مديريهما ، وتغيير خطهما التحريري، إن كان أصلا لهما خط تحريري. لوضع حد للمهازل والمزلات التي تورطا في ارتكابها.
خرج أهل الريف للشارع لإسماع صوتهم، لأنه لقد بلغ السيل الزبى . بالأمس كان سكان صفرو مع موعد مع التاريخ النضالي فخلقوا الحدث. تحركوا لأن غلاء المعيشة نخر جسمهم و أستنفد مدخراتهم . بعدهم خرج سكان مدينة أسفي لاحتجاج عن أطنان النفايات المستوردة من ايطاليا، حيث كاد الاحتجاج السلمي أن يتحول إلى ما هو أسوء . كل هذه التحركات تؤشر وتشير لشيء واحد وهو أن هاجس الخوف الذي كان يهيمن ويتحكم في النفوس مند أيام الجمر سيئة الذكر، قد اختفى . و أن الشعب شمر عن ذراعيه لنزع بعض الحقوق، وفرض الاحترام الذي سيستحقه كباقي شعوب العالم .
فبخروج ألاف المتظاهرين بالعاصمة تضامنا مع أهل الريف في انتفاضتهم ، وجد الفبرايريون القدامى فرصة للإثبات للعالم إن الشعلة لم تنطفئ و أن العدالة الاجتماعية تبقى هي المبتدأ والخبر .
بدأنا المقال بمقولة طبيب فضل العيش مع المقهورين والمضطهدين في الأرض ، نختمه بكلمة أخرى أكثر عمقا خصصها للرأسمال الرمزيّ: '' ماذا يفيد المجتمع إذا ربح الأموال وخسر الإنسان؟ ''
رزاق عبدالرزاق
No comments:
Post a Comment